موارنة العصر الحديث وحكم التاريخ
بقلم: مايكل كولي
(الكاتب رئيس سابق لرويترز الشرق الأوسط ومتخصص في القيادة الأستراتيجية من جامعتي هارفرد وبرنستون الأمريكيتين. للتعليق: michael.kouly@post.harvard.edu)
عندما تعيش في الحدث، يعميك غباره عن استبانة حقائق الأمور، ويكثر الكلام وتتنوع التحليلات حول تفاصيله. ولا شك أن انقشاع الغبار سيسمح برؤية أفضل، ولكن النظرة لن تكون واحدة بالتأكيد. ومع تكاثر الأحداث في السنتين الأخيرتين في لبنان وتزايد الحديث عن الوضع المسيحي فيه، غرق المنظرون في تيارات متعاكسة ورؤى متباينة، بسبب الضبابية التي اكتنفت قلب الأحداث. فكان لا بد من قلب الأرقام للوصول إلى قراءة أوضح، فلنتخيل اذا أننا في العام 2070 بدلاً من العام 2007، ولنقرأ ونحن في المستقبل ما سُطر في صفحات التاريخ عن الأداء السياسي للمسيحيين في لبنان. والمقصود بالمسيحيين هنا الموارنة بشكل خاص ثم سائر الطوائف بشكل عام، ذلك أن الموارنة أمسكوا ولا يزالون بزمام القرار السياسي المسيحي في لبنان.
مما لا شك فيه أن القراءات السياسية سوف تتباين، فثمة من سيعتبر أن الموارنة حققوا إنجازًا وصنعوا إعجازًا، حين استطاعوا انتزاع اعتراف عربي وعالمي ببلد في الشرق المعاصر المسلم يكون لهم فيه الدور الأساس، حيث قام هذا البلد على مشاركة مسيحية فعلية ابتداء من رئاسة الدولة، وبهذا لم يعد المسيحيون في ارضهم مواطنين من الدرجة الثانية. ولا ننسى أن هذا الإنجاز الضخم تحقق في فترة من أحلك فترات المنطقة والعالم، بعد حربين عالميتين أعادتا ترتيب الدول وتشكيل موازين القوى، كما شهدت هذه الفترة نمو الحركات الأصولية إسلاميًّا ويهوديًّا وتوترا بين الأديان والحضارات.
وسيرى الباحثون من هذا الجانب أن المسيحيين نجحوا بالتعاون مع القوى العالمية في خدمة وجودهم واستجلبوا لذلك الدعم الأوربي والأمريكي والإقليمي، في حين لم يمتلك لبنان أي ثروات طبيعية يمكن أن تكون أطمعت المتدخلين. وفي خضم التدخلات والتدخلات المضادة استطاع الفريق المسيحي مواجهة أطماع وضغوطات ذات أحجام عالمية هائلة، فابقى على خصوصية لبنان وصيغته الفريدة التي دعَّمت الحضور المسيحي الفاعل في الشرق الأوسط.
وعلى النقيض من هذا فإن فريقًا آخر من المحللين سوف يذهب إلى أن المسيحيين قد كسبوا الرهان على تحقيق البلد الحلم، ولكنهم سرعان ما أضاعوه، وبرهنوا في ذلك على أنهم لم يكونوا سوى مراهقين حلموا مرة ولما تحقق الحلم دمروه، فهم غالبا لم يحسنوا التصرف ولم يكن عندهم حس كاف من المسؤولية ولا امتلكوا المطلوب من الحكمة والرشد للحفاظ على فرصة قلما يجود الزمان بمثلها، فتماحكوا وتناكفوا وتخاصموا وتقاتلوا حتى أُرهقوا وانتهى بهم الأمر وقوفًا على الطلل يبكون كالنساء مجد لبنان الذي أُعطي لهم، فلم يحفظوه كالرجال.
وسيُسجل في هذا الجانب أن الشعب المسيحي الذي عانى الاضطهاد في الشرق لقرون، أسكرته نشوة السلطة وأفقدته توازنه، فكان كالصبي المحروم الذي أسقط عليه الدهر ثروة، فلم يقوَ على المحافظة عليها.
وإنه لمن الإنصاف أن نقول إن في كلا القراءتين تطرُّفًا وغلوًّا، ولعل الحقيقة كامنة في مكان ما بينهما، والوصول إليها يتطلب نظرة أكثر تأنيًّا وعمقًا، لتقديم مقاربة أكثر موضوعية ودقة للأداء الماروني خلال القرن الماضي.
ولننطلق من هذه النظرة لنعود للحاضر ونطرح الأسئلة التالية ونحاول الإجابة عليها:
ما هو الوضع المسيحي في العام 2007؟ وهل تعلم المسيحيون من تجارب الماضي المكلفة؟ وهل كان من الممكن أن يكون الوضع أفضل؟ وإلى أين تتجه الأمور بحسب مجريات الأحداث؟ وما الذي ينبغي فعله؟
الواضح انه مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، كانت الكلمات الأكثر دورانًا على الألسن في الثقافة السياسية المسيحية: التهميش، الحقوق المسلوبة، الغَبن، المواطنة من الدرحة الثانية، استئثار الآخرين، الاضطهاد والأسلمة. ما يدل بوضوح على أن ثمة نفسية يائسة، خائفة وقلقة تقبع خلف الخطاب وهي تعتمد أسلوب النق والبكاء على الأطلال بدلاً من مواجهة ذكية وفعالة للتحديات الحقيقية. كما أن الكثير من الطاقات التي يتمتع بها الكيان المسيحي هدرت على مذبح صراع سلطوي داخلي على وجود يتقهقر، كورثة يقتتلون من أجل السيطرة على شركة أبيهم السائرة نحو الإفلاس بدلاً من أن يتعاونوا على استنقاذها.
والذي يبدو أن المسيحيين، مع افتتاحية الألفية الثالثة،لم يستفيدوا كثيرًا من تجارب الماضي ولم يستلهموا منها ما يزيحون به الأخطار المحدقة، فدرجة الوعي لديهم تدنت، ونضوجهم قلَّ، ومستوى التخاطب بينهم انحدر، والكيان المسيحي تخلى عن بعض الصفات الأساسية في دينامكية الاستمرار والتي منها: التماسك والحكمة والثقة والشجاعة والأمل والإقدام والقدرة، ليستبدلها بصفات تقهقرية هي: التشرذم والخفة والتردد والخوف واليأس والعجز والضعف. لقد أثقل تاريخ الاضطهاد وسنون الخوف الطوال وعقدة الأقلية ذاكرة المسيحيين ووعيهم، كما أرهقتهم الصراعات المريرة المتواصلة منذ عهد الاستقلال فباتوا كما نرى ونسمع، ولكن إلى أي حدٍّ يمكن أن تبرر مصاعب الماضي أخطاء الحاضر؟
صحيح أن صيغة الحكم الجديدة في لبنان قد حدّت من صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني، ولكنّ مابقي للمسيحيين بعد الطائف ليس بأقل مما حازه المسلمون، هذا على الصعيد السياسي. أما على الصعيد الاقتصادي فهم لا يزالون يشكلون قوة راجحة في الاقتصاد اللبناني، كما أنهم يدخرون مخزونًا من المال الاغترابي يصعب على غيرهم الوصول إلى مثله. وعلى الصعيد الديمغرافي والعددي فهم ينتشرون في كل لبنان حاملين منذ قرون صكوك اراض شاسعة كما ينبغي أن لا ننسى أن عدد الموارنة في بلاد الاغتراب يفوق عدد سكان لبنان بكل طوائفه، ولسوف يحتاج لبنان إلى ردم مساحة من البحر المتوسط ليتمكن من استقبالهم في حال أرادوا العودة إليه.
كما تجدر الإشارة إلى أن المجتمع المسيحي اللبناني يتمتع بجانب علمي وثقافي كبير، كما يمتلك إمكانات إدارية وإبداعية عالية، شأنه في هذا شأن سائر اللبنانيين الذين برهنوا نجاحهم في كل بقاع الدنيا وفشلوا حتى الآن في إنقاذ وطنهم. ان الوضع المسيحي الحاضر غير مبرر ابدا فهو لايشكو من ضعف بنيوي. ان العكس هو صحيح. المشكلة هي غياب الفعل القيادي (وليس الزعامات) في المجتمع الماروني.
ومن المفارقة أن ييأس المسيحيون في حين أن جوهر الإيمان المسيحي يرتكز على بثّ فلسفة الأمل ودعوة الأقلية أن تكون فاعلة في مجتمعها فعل "الملح في الأرض" و"الخمير في العجين"، كما يرسخ فلسفة احتواء الآخر بالمحبة وانتصار على الفروقات، والتغلب على شوكة الموت. ومن الغريب أن يتقوقع المسيحيون في حين أن الرسالة المسيحية أخرجت الدعوة اليهودية عن قيود القومية وحولتها عالمية، وبهذا جعلت العالم عائلة واحدة.
إن تخلي المسيحيين عن هذه المقومات وتلك الرسالة الأنسانية، وتاليًّا عن الدور القيادي القيمي، أورثهم معاناة تقاسموا مأساتها ومُقاساتها مع سائر مكونات المجتمع اللبناني والبشري، فكل لبنان دفع الثمن. ففي حين تتأمل البشرية نجاح نموذج التعايش اللبناني، ليستفيد منه سائر العالم تأتي هذه الإخفاقات (والتي ساهم فيها كل الفرقاء) لتخيف كل متأمل يعي خطر الإنسان على الإنسان.
ما العمل؟ إن المطلوب انتاج ثقافة قيادية تعالج المشاكل على مستوى القيم والمفاهيم وليس فقط معالجة تقنية للعوارض والآثار، فعندما تكثر عبارة "البلد ليس لنا" على لسان المسيحيين بعد أن حفر أجدادهم الأديرة في صخور الجبال، فإن المشكلة الأساسية أكبر بكثير من خلاف سياسي وصراع على الصلاحيات، إنها مشكلة تغير خطير في المفاهيم والقيم. وهنا يبرز الدور المحوري لمؤسسة الكنيسة بوصفها المرجع التاريخي للمسيحيين في الشرق، لتتحمل مسؤوليتها بشكل أكبر بكثير، فكما أن الحرب أخطر من أن تترك للعسكرين وحدهم، فإن المصير أهم من أن يترك للسياسيين، فالمرحلة وجودية، مرحلة ان تكون أو لا تكون. ولا نزال نعيش مأساة مسيحيي العراق الذين يجتثوا جذريا من أرضهم بعد الفي عام من الوجود، ولا تزال مخاطر سناريوهات الغزو الفكر التكفيري المتنامي تطرق ابواب لبنان، وإن التاريخ شاهد على الدور الإنقاذي الذي لعبته الكنيسة في لبنان وأماكن أخرى مرة بعد مرة، ولن يكون آخرها ما قامت به كنيسة اوروبا الشرقية لمواجهة المد الشيوعي.
ولا بد من أن يبدأ الحكماء وعلى رأسهم الكنيسة بالخطوة الأساس وهي زرع ثقافة "الرسالة" sense of purpose التي يحملها المسيحي في لبنان والشرق لتكون حافزه وسبب وجوده وتشبثه بأرضه، وهو لب ما أرشدت الكنيسة الكاثوليكية وشددت عليه، لأنه السبيل الوحيد لمد المسيحي بالقدرة على التحمل والاستمرار والأزدهار وعندها فقط سوف يُحسِّن المسيحي أداءه ويحفظ طاقاته من الهدر ويكون قادرًا على اجتراح الحلول لتحديات الحاضر والمستقبل.
ولكم يتملكني العجب عندما أرى الطائرات تقلع من مطار بيروت وهي تقل الشباب المسيحي المهاجر تاركًا وراءه رسالة انسانية جامعة وآلاف السنين من العمق التاريخي والانتماء وبلدًا جميلاً معطاء واشقاء في الوطن، وعلى مسافة قريبة تحط الطائرات محملة بأفواج من الوافدين إلى "أرض الميعاد" ، تاركين رخاء الغرب وأمنه وسلامه وطمأنينته، ليستوطنوا شقاء الشرق واخطاره وحروبه، وليخلقوا لأنفسهم وطنًا وتاريخًا في بيئة تنكرهم وينكرونها.
Michael Kouly
آيلول 2007
3 comments:
Let us start a debate
i think you must add this to your website.
a realistic and well thought analysis...wish all maronites could read it and act accordingly...bravo
Post a Comment