حروب اللبنانين عبر الآخرين
بقلم: مايكل كولي
(الكاتب رئيس سابق لرويترز الشرق الأوسط ومتخصص في القيادة الأستراتيجية من جامعتي هارفرد وبرنستون الأمريكيتين. للتعليق: Michael.kouly@post.harvard.edu)
"لبنان يا قطعة سما، اسمك على شفافي صلاة"، كلمات عميقة غناها أحد كبار موسيقيي لبنان وديع الصافي. وليس غريبًا أن ينظر اللبنانيون إلى وطنهم على أنه محور الدنيا، وأجمل بقاعها. ولكن الغريب أن يشاركهم في هذه النظرة أو بعضها غيرهم، بحيث احتل لبنان أهمية قد يبدو للكثيرين أنها لا تتناسب مع حجمه أو ثرواته.
ففي حين ان لبنان ليس اكبر بكثير في مساحته من مدينة كبيرة في ولاية أمركية، أصبح الشغل لشاغل البيت الأبيض، فلم يغب لفترة من الزمن عن خطاباته، وصار محط اهتمام عدد كبير من الرؤساء والمسؤولين الدوليين، كما أضحى الحلقة النشطة في سلسلة التحركات الدبلوماسية العالمية مما دفع عددًا من المراقبين إلى القول إن القوى الدولية والإقليمية تستخدم لبنان ساحة لمعاركها. وليس بعيدًا عن هذا كتاب الأستاذ غسان تويني بعنوان "حروب الآخرين" او كما يحب ان يسميه هو "حروب من اجل الآخرين".
ولعل موقع لبنان الذي شكل بوابة على العالم العربي ونافذة ثقافية له، كما تنوعه الديموغرافي كونَه نقطة التقاء لحضارات المنطقة ودياناتها، أسهم بتعزيز أهميته، وتسهيل دخول القوى الدولية والإقليمة كلاعبين أساسيين فيه. غير أن إهمال دور اللبنانين في الصراعات واعتباره هامشيًّا أمر مجانب للمنطق والواقعية. فكما استخدمت القوى الدولية والإقليمية المجموعات اللبنانية لتقوية دورها ومدّ نفوذها وسيطرتها عبر هذه المجموعات، فإن المجموعات اللبنانية سبق أن استخدمت تلك القوى في مآربها، ولاتزال تمعن في ذلك بكل ما اوتيت من دهاء. ان اللبنانيين تفننوا في استعمال الآخرين، أقربين وأبعدين، ادوات في حروبهم الكبيرة ضد بعضهم البعض في وطنهم الصغير. ان انقاذ لبنان يتطلب اولا مواجهة الحقائق الصعبة ومن اهمها أن حروب لبنان في جوهرها لم تكن بمعظمها، وهي ليست الآن، من أجل الآخرين بل هي حروب خاضها او سمح بها اللبنانيون من اجل اعتباراتهم الفئوية وقد استعملوا اولادهم واولاد اللآخرين وقودا لهذه الحروب.
إن لبنان عبارة عن مجموعات أقلية قادها غريزة البقاء في جوٍّ من انعدام الثقة المتبادلة فيما بينها نتيجة لتاريخ ضارٍ من الحروب. وقد نسجت هذه المجموعات شبكة علاقات خارجية منذ مئات السنين، أي قبل نشوء الجمهورية بزمن بعيد، واستثمرت هذه العلاقات لتستقوي كل مجموعة على الأخريات، وتحمي نفسها منهم، وتعزز دورها في محيطها. وبالتالي فقد كانت الجهات الخارجية بالنسبة للمجموعات التي استنجدت بها وسائل وأدوات لتحقيق مصالحها الذاتية من خلال تقاطع المصالح وتداخلها. وقد برز بشكل واضح مقدرة اللبنانيين على اللعب بالأمم، والتذمر في الوقت عينه من تدخل هذه الأمم والانقلاب عليها ومواجهتها، ما أنتج منذ اواخر السبعينيات اصطلاح سياسي دولي عرف "بتجنب الغرق في رمال لبنان المتحركة".
أما القوى الخارجية فقد كان دافعها التوسع والانتشار، وتلك رغبة كامنة في كل المجتمعات والمخلوقات، ووفق قانون الطبيعة فإن كل كائن حي يسعى للاستمرار والتوسع، ولا يُعيق سعيه للتوسع إلا مقاومة البيئة التي يحاول اقتحامها، فإذا كانت هذه المقاومة ضعيفة أو معدومة دخل الكائن وتوسع وانتشر بشكل مضطرد.
وقد وجدت القوى الخارجية في لبنان بيئة ضعيفة ومشرذمة، سمحت لها بالدخول، ورحبت مجموعة على الأقل بتدخلها، وفي أكثر الأحيان كانت هذه التدخلات تأتي بعد إلحاح داخلي حثيث، ما خلق ديونًا سياسية ضخمة، وكان أن ارتهنت المجموعات للجهات مقابل ما أسلفتها من الدعم والحماية، وأسلمتها قرارها وولاءها، وبات الولاء للوطن متأخرًا في الرتبة، وأمست المجموعات المرتهنة رهن إشارة تلك الجهات فيما تأتي أو تذر. ومع التقادم كبرت الفواتير وتراكمت الفوائد وفقدت المجموعات اللبنانية حريتها، وأصبح القرار مُجيرًا بالكامل لمن يحمي ويدعم، تمامًا كحال المدين الذي أسرف في الدين، حتى حجز الدائن على ممتلكاته، وحجر على تصرفاته. فلا أحد يُقدِّم الدعم والحماية بالمجان. ولا يزال اللبنانيون يسمعون من كبار مسؤوليهم اعترافات بأنهم فقدوا القرار وأن الحل في الخارج وليس في الداخل.
ومن المفارقة أن يتذمر اللبنانيون من حمل أعباء الديون المالية التي انعكست على حياتهم الاحتماعية وأثقلت كواهلهم، دون أن يتنبَّهوا لعبء الديون السياسية ـ ديون الولاءات ـ التي صادرت قرارهم واسترقتهم وحولتهم، كما يرى البعض، إلى ما يشبه العبيد منذ زمن بعيد. فلبنان منذ نشوء الجمهورية نادرا ما انعطف بحركة ذاتية في أي مفصل سياسي، بل إن حركته السياسية كانت في الغالب موجهة او محفزة بشكل كبير من الخارج، ولعل الحدث المعاصر الأبرز الذي يستلزم الدراسة والتحليل، ويدور الجدل حول ذاتيته وتجاذبات الخارج هو ظاهرة الرابع عشر من آذار، فإن هذا الحدث بالرغم من غلبة الطابع العفوي والذاتي على حركة جمهوره، إلا أن قادته السياسيين قد منَّخوا لهذه الحركة الشعبية دوليًّا، وتحينوا لها التوقيت الكوني المناسب. وبهذا فقد استعانوا بالخارج واستلفوا منه، في مقابل الفريق الآخر الذي استدان بدوره من جهاته الخارجية، فتضاعفت الديون على كاهل هذا الوطن المثقل.
يرتاح الكثيرون لإلقاء اللوم على الخارج، وانتظار الحل من عنده، ويُسرحون خيالهم في نظرية المؤامرة او الفتنة، وهذا تصرف إنساني طبيعي وشائع. حيث إن الأفراد والمجتمعات يبدعون في البحث عن شماعة يعلقون عليها أخطاءهم بدلاً من الاعتراف بها ومواجهتها، والحقيقة بعيدة عن ذلك، إذ ما من دولة إلا ولها أعداء متربصون، يبحثون بشكل دائم عن ثغرة يتسللون من خلالها للنفاذ إلى مواقع النفوذ، وهم يتوسلون لذلك شتى الطرق من استعمال العصبيات العرقية والدينية والمذهبية، والخلافات الثقافية والفكرية، ولا سبيل لهم إلا عبر أبناء الوطن الذين هم أما يشكلون سدًّا منيعًا وحماية حصينة، وإما نقاط ضعف في جدار حماية الوطن يلج منها الطامعون المتربصون. ولا جدوى من القاء اللوم على الآخرين اذ إن العمل على زرع بذور الثقة بين الزوجين وإبعاد فكرة الخيانة عن عقلهما، أنفع بكثير من البحث عن السبب الذي يدفع الآخرين ويمكنهم من الوصول إلى مخدع الزوجية.
ويحضرني في هذا قصة الرجل الذي لا ينفك يلوم جاره لتسلله المتكرر إلى مخدعه الزوجي، متناسيًا أن العيب يكمن في الزوجة اللعوب، قبل أن يكون في الجار الانتهازي. من هنا فإن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح في موضوع استعمال لبنان كساحة في سياسة المحاور، ليس متعلقًا بالقوى الدولية والإقليمية، بل هو متعلق باللبنانيين أنفسهم: كيف تمكن فيهم الانقسام وفرغت قلوبهم من الرحمة نحو بعضهم البعض وأدى بهم إلى الإمعان في استخدام الآخرين في صراعاتهم الداخلية وتحويل وطنهم ساحة مفتوحة على حساب مستقبل أطفالهم؟
اللبنانيون اليوم يسدّدون ديونًا سياسية استلفها أجدادهم، عندما لجؤوا إلى الاستعانة بالخارج عوضًا عن الاتفاق مع الشريك في الوطن بالداخل، وبدل أن يحلوا الأزمة ويعالجوها زادوها حدّة واستحكامًا وتعقيدًا.
كان أحد كبار مفكري لبنان د.شارل مالك يكرر القول انه في نهاية المطاف فإن المسؤولية هي شخصية. بمعنى أن اللبنانيين هم المسؤولون أولا عن أزماتهم، وهم المعنيون قبل غيرهم بإيجاد الحلول لها. وغالبًا ما يؤكد كبار زوار لبنان من السياسيين هذه القناعة في العلن عسى ان تكون الحياة في من ينادون.
أن اللبنانيين أمام خيارين: بإمكانهم أن يستلفوا المزيد من الديون السياسية للاستقواء على بعضهم البعض، يغرق فيها بعدهم أبناؤهم وأحفادهم، او بإمكانهم أن يواجهوا مشاكلهم الحقيقية ويعالجوا بشكل نهائي أزمة الثقة بكثير من التفهم والتقبل لشركائهم في الوطن. على اللبنانيين أن يعرفوا تمام المعرفة انه كما هي الحال في الحياة العائلية فأن تقبل الشريك في الوطن بكل ما فيه من علات، أوفر من الأستقواء عليه بالخارج ايا كان.
لبنان بلد تلاقي الديانات السماوية، ورسالات هذه الديانات أرشدت اللبنانيين منذ قرون إلى الحل، وما عليهم إلا أن يصغوا إلى نصحها، ويعتصموا بحبل الله جميعًا ولا يتفرقوا لإن "كل بيت انقسم على نفسه خرب".
Michael Kouly
حزيران 2007
No comments:
Post a Comment