Thursday, October 4, 2007

ملهاة الاستحقاق الرئاسي

ملهاة الاستحقاق الرئاسي

بقلم: مايكل كولي

(الكاتب رئيس سابق لرويترز الشرق الأوسط ومتخصص في القيادة الأستراتيجية من جامعتي هارفرد وبرنستون الأمريكيتين. للتعليق: michael.kouly@post.harvard.edu)

كما العادة عند كل استحقاق رئاسي في العالم الديموقراطي، تتعلق آمال الناس على الرئيس الجديد الذي سيحقق للبلاد التقدم والازدهار ويؤمن لها الأمن والأمان ويعالج معظم الأزمات الصغيرة والكبيرة. وكما العادة أيضًا فإن طبول المعركة الانتخابية ترتفع أصواتها، ويرتفع معها سقف التوقعات التي يطلبها الناس من الرئيس العتيد، وكذلك الوعود التي يغدق بها المترشحون، ليؤكد كل واحد منهم أنه أفضل وصفة لتحقيق هذه الآمال. وبالرغم من سخونة المعركة وضراوة المنافسة فإن الأفرقاء السياسيين على اختلافهم، فور انقشاع غبارها، سرعان ما سيبدؤون بالالتفاف على الرئيس الجديد ليحاصروه بمطالبهم ويُثقِّلوا عليه الأحمال.

وهذا كله طبيعي، فالرئيس بما أنه رمز السلطة يجسد تطلعات الناس ومطالبهم، المتلخصة في ثلاث نقاط: التوجيه والحماية وتثبيت النظام. وهي أمور لا يقوم مجتمع دونها، كما لا يقوى على تأمينها أحد غير السلطة.

الخطير في الموضوع أن تتحوَّل مثل هذه المناسبة إلى فرصة يحاول فيها المجتمع تبرئة نفسه من كل الأخطاء والمسؤوليات وإلصاقها بالعهد البائد. والأخطر، أن المجتمع بمثل هذا المنطق يُعفي نفسه، في المستقبل، من كل مسؤولية أو دور يمكن أن يُسهم من خلاله بإصلاح الخلل وتحسين الأحوال.

وكأن المجتمع البشري لم يتعلم بعد أن انتظار البطل أو المخلص هو مجرد هروب من الواقع وأزماته، وأن هذا الانتظار لا يقدم للإنسانية شيئًا سوى الكسل والخمول، واستجرار المشاكل المتراكمة. والواقع أن المنطق البطولي الذي يجسده المخلص المنتظر هو فخ ينصبه المجتمع وهو نادرًا ما ينجح، وأن الإنسان الذي يرضى بتمثيل هذا الدور يتحول الى ضحية فيتحمل الصعاب والعذابات العظام، وإذا ما تمكن من تحقيق بعض المكاسب والانتصارات، فستكون جزءً يسيرًا من توقعات المجتمع وتطلعاته، إذ العادة قاضية بأن التوقعات التي تجسد تطلعات مجتمع بأكمله، أكبر بكثير من أن يتمكن شخص واحد، مهما علا شأنه، من تحقيقها. ان مسؤلية استمرار وتطور المجتمع تقع على جميع افراده بدون استثناء وليس على "الأبطال" او السلطة وحدها.

والذي يحصل في لبنان الآن هو من هذا القبيل، إلا أن البطل هنا بلا حصان، فقد طوّر النظام الديموقراطي نفسه ليكون الرئيس مراقبًا لعمل المؤسسات ومحافظًا على الدستور، أي أنه في أحسن أحواله شريك في السلطة وليس بمقدوره كما ليس بمقدور شركائه الانفراد بالقرارات، والمراهنون على الرئيس إما سذج، وإما دهاة يمعنون في تفشيله، ضمن لعبة الصراع على السلطة والمحاصصات بين مكونات المجتمع اللبناني. ولتجنب هذه الرهانات المستحيلة على البنانيين أن يجيبوا بصدق وجرأة على هذه الأسئلة:

1. ما هي امكانات الموقع الرآسي والرئيس؟

2. ماذا يريد منه المجتمع أن يفعل بالتحديد وبواقعية؟

3. الى اي حد سيسمح المجتمع للرئيس بعمل ما يلزم؟

4. ما دور مكوِّنات المنظومة الاجتماعية في مساعدته في ما يفعل؟

وإذا ما وضحت إجابات هذه الأسئلة قلَّت خيبات الأمل، وبالتالي تجنب المجتمع تضييع الجهد والوقت على ما لا يمكن أن يكون، وأمكنه أن يلامس قضاياه بواقعية أكبر، ويحدد أولوياته، ويوزع الأدوار على جميع أفراده بحيث يتعاون كل الشعب لإنقاذ وتحقيق ما هو للكل.

وبالحديث عن الأولويات، فالملاحظ أن أحاديث النخب قد اجتمعت على أن ثمة غيومًا داكنة تتجمع فوق منطقة الشرق الأوسط، ما ينذر بعواصف وأعاصير قد تكسر أشجار كبيرة ومتماسكة، فما بالك بالأشجار الصغيرة والهشة. والبيت اللبناني في ظل هذه الغيوم المتلبدة أحوج ما يكون إلى التحصن من التوترات المتزايدة، والعاصفة المحتملة، ليتمكن من تجاوزها بأقل ما يُمكن من الخسائر. والغريب أن أولئك الذين يتحدثون عن الأزمة المقبلة، ويحذرون منها، هم أنفسهم يُمعنون في جر المزاج اللبناني العام إلى مزيد من الاصطفاف والانقسام والصراع الداخلي، خلافًا لما تُمليه مصلحة البلد وحس المسؤولية، والحال أن الناظر إلى اللبنانيين يراهم يُقيمون التحصينات ويُحكمون بناء الجُدُر، ولكن بدل أن تكون اسوارا للحماية يستعملونها متاريس، متناسين أن الزمن لايرحم، وأن العواصف العاتية آتية عاجلاً أم آجلاً، فهي جزء من حركة التاريخ. وبدلاً من حماية البيت المهدد يتلهون بالاختصام على اقتسام الغرف، ويتمترسون فيما بينهم، حتى أصبح لبنان أشبه ببيت كثير الغرف، جدرانه الداخلية أسمك وأمتن من جدرانه الخارجية.

إن الحاجة ملحة لعمل قيادي يساعد اللبنانيين على مواجهة الواقع بشجاعة، وتعريته من كل الأقنعة، ويفرض إسهام الجميع في اجتراح الحل والعمل على تحقيقه، لأن الكل مسؤول عن الأزمة وليس واحد منهم بريئًا، فالجميع أخطؤوا وأعوزهم غفران الأجيال القادمة.

إن العمل القيادي يقسم المشاكل إلى نوعين: مشاكل تقنية، ويقدم لها حلولاً تقنية. ومشاكل جوهرية ويقدم لها حلولاً جوهرية.

فالحلول الجوهرية هي تلك التي تتطلب تغييرًا في قيم الأفراد وقناعاتهم وتدفع بهم لتبني قيم وقناعات تسهم في تطويرهم وإقدارهم على التأقلم مع التحديات المستجدة فهي تعمل على ردم الفجوة بين آمال المجتمع وطموحاته من جهة، وبين الواقع الذي يعيشه هذا المجتمع من جهة أخرى بما يؤمن حياة كريمة لكل أفراد المجتمع. وهذا النوع من الحلول يتطلب عملاً صعبًا ومعاناةً وألمًا، كما يتطلب الكثير من المثابرة والإبداع والشجاعة والحكمة، وهذا صميم العمل القيادي.

أما الحلول التقنية فهي تلك التي لا تتطلب تغييرًا في قيم المجتمع، بل تبقى عملاً آليًّا مجرّدًا. ومن الأخطاء الشائعة التي تقع فيها المجتمعات، اللجوء إلى الحلول التقنية السهلة لمعالجة المشاكل الجوهرية، حيث تبقى هذه الحلول عاجزة عن معالجة الأسباب الحقيقية للأزمة، وتكتفي بالحد من بعض آثارها ونتائجها، فيما تزداد الأسباب الحقيقية للأزمة تعقيدًا واستحكامًا.

إن المجتمع اللبناني لم يستطع بعد معالجة مفاهيمه البالية بسبب غياب العمل القيادي، فاكتفى باستهلاك الحلول التقنية إزاء المشاكل الجوهرية، وقد كلف هذا اللبنانيين الدمار والدماء والديون، وما لم يعمل على استبدال هذه القيم فسوف يبقى غارقا في الأوحال ذاتها ودائرا في الحلقة المفرغة المليئة بخيبات الأمل.

وإلى أن يجيب اللبنانيون على هذه الأسئلة: من هم؟ وهل يريدون ان يعيشوا سويا؟ وهل يستطيعون أن يُضحوا للعيش معا بسلام؟ وكيف ينجحون في ذلك؟ ستبقى الحلول المطروحة حلولاً تقنية، ولن يستطيع أي رئيس جديد، كائنًا من كان، ان يعالج ما لم يستطيع معالجته اقطاب الصراع والنفوذ مجتمعين في حواراتهم المختلفة، ولا أن ينقل لبنان من التقهقر إلى التطور، فستستمر الصراعات، وسيستمر التخبط من حل تقني مستهلك إلى آخر مستحدث.

إن ما عرفناه في تاريخ لبنان المعاصر لا يحمل على الكثير من التفاؤل، بل هو يدفع للاعتقاد بأن موضوع الانتخابات الرئاسية لم يُطرح يومًا إلا كمعالجة تقنية وسطحية عاجزة عن ملامسة الأزمة الحقيقية، وستكون أشبه بالحلول التي انتظرها الناس لتخلق واقعًا أفضل ولكنها استمرت بالفشل، كالدستور الجديد، والحكومات الجديدة، والنواب الجدد، والقانوانين الانتخابية الجديدة..

وستبقى هذه الآمال المعلقة على هذه الاستحقاقات، على اهميها التقنية الكبيرة والأساسية، آمالاً موهومة، لأن مقاربتها ليست أكثر من مقاربة آلية ضمن عملية نمطية يتجنب من خلالها المجتمع النظر في المرآة ورؤية عواره. وطالما أن لبنان أساسًا، مجموعة من الأقليات التي لا يثق بعضها ببعض، تتصارع على السلطة وعلى مقدرات البقعة الجغرافية التي تشغلها، فإن جوهر الانتخابات الرئاسية سوف يبقى صراعًا على السلطة، وما يؤكد هذا أنه بدلاً من أن تكون مشروع اتفاق، تحولت إلى موضوع انقسام، وعنوانًا لمواجهة جديدة في صراع قديم.

إنه لمن الطبيعي أن يكون على رأس الجمهورية رجل حكيم وفذ، ولكن إنقاذ الوطن يتطلب أكثر من ذلك، يتطلب مسؤولية مشتركة حيث يقوم الكل بدوره لاستيلاد لبنان، وطنًا يكرَّم فيه كل إنسان.

إن الجمهورية الثانية (أو الثالثة...) لن ترى النور إلا بتجدد اللبنانيين أنفسهم، ليولدوا ثانية بقيم جديدة، فيعاينوا ملكوت السلام "فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا (هم) ما بأنفسهم".

Michael Kouly

,2007-10-04

No comments: