مسلمو لبنان الحديث وحكم التاريخ
بقلم: مايكل كولي
(الكاتب رئيس سابق لرويترز الشرق الأوسط ومتخصص في القيادة الأستراتيجية من جامعتي هارفرد وبرنستون الأمريكيتين. للتعليق: Michael.kouly@post.harvard.edu)
نصحني البعض أن لا أكتب هذا المقال، واستحضروا ردات الفعل على محاضرة البابا بنديكتوس الشهيرة، وعلى الرسوم الدنماركية، ليؤكدوا حساسية التحاور مع المجموعات الدينية في زمن العواطف الجياشة. ولكني مضيت قدمًا على اعتبار أن هذه المقالة لا تستدعي ردات فعل مثل تلك التي حصلت في الحادثتين آنفتي الذكر، لاسيما أنها تناقش السلوك السياسي لمسلمي لبنان، وليست موجهة إطلاقًا إلى الدين الإسلامي الموقر. وأن تسليط الضوء على صورة ما قد لا تكون مستحبة للبعض، لا يقصد به الإساءة أو الانتقاص، بل فتح باب الحوار حول هذه الأفكار. وقد شجعتني نصيحة يرويها المسلمون عن الإمام علي: "اعرف الرجال بالحق، ولا تعرف الحق بالرجال". وعليه فأملي أن ينظر القارئ إلى مقالتي نظرة موضوعية، ويتعرف إليّ عبر المقالة، بدلاً من أن يتعرف إليها عبري. كما أن العمل القيادي يتطلب جرأة وإقدامًا ومصارحة، على اعتبار أن المجتمع لن يتطور ولن يُعالج مشاكله إن لم تحرره الحقيقة المرة من قيود الأوهام الحلوة.
وبعد هذه المقدمة الاستباقية؛ فقد رأيتُ أن أتصفح في رحلة زمنية نحو المستقبل، كتب التاريخ في القرن الثاني والعشرين، لأقرأ ما دوّنته عن سياسيي "مسلمي لبنان المعاصرين"، على غرار ما فعلته في مقالة سابقة عن "الموارنة".
وبالطبع فإن النظرة السياسية إلى المسلمين، والقصد في هذه المقالة دائمًا مسلمو لبنان تحديدًا، لا تكون واحدة، والاستنتاجات لن تكون متفقة، فثمة مؤرخون سيفخرون بما حقّقه مسلمو لبنان من خلال مجاراتهم الفريق المسيحي في هواجسه وهمومه، والقبول بقيام دولة صغيرة ضمن المد الإسلامي الكبير يكون المسيحي رئيسها، وسيعتبر هذا الفريق أن تصرف الفريق المسلم كان قمة في التعايش والنظرة الإنسانية التي لا تفرِّق بين إنسان وآخر بسبب اختلاف المعتقدات. عدا أنه تصرُّف سياسي ممتاز، فقد استنقذ المسلم اللبناني نفسه من الغرق في البحر العربي والإسلامي المحيط به، والذي كان ليكبِّله ويجعله جزءًا صغيرًا غير قادر على التأثير والمشاركة الحقيقية في القرارات المصيرية، وأتاح لنفسه بمشاركة الفريق المسيحي أن يتميّز عن سائر المحيط، ويستفيد من تعاطف الغرب المسيحي المتفوق علميًّا وعسكريًا واقتصاديًا. واستكمل بذلك الدور الذي منحته إياه الجغرافيا وعززته الديموغرافيا ليكون همزة الوصل بين الشرق والغرب.
فالمسلمون من هذه الوجهة تحدوا الخط العام العربي والإسلامي بقبولهم قيام بلد يتقاسمون فيه السلطة مع المسيحيين، في حين ترى كثير من التيارات الدينية المتشددة عدم جواز إشراك غير المسلم في الحكم، ولا بد أن يُسجل لهم أنهم بهذا سمحوا للبنان أن يولد، وبرهنوا على قدر كبير من الاعتدال والسماحة، حين رضوا أن يشغل المنصب الأول في الدولة مسيحي، -- لا ننسى أن المسيحيين في فترة ولادة لبنان الكبير كانوا أكثر عددًا من المسلمين، ومتقدمين علميًّا واقتصاديًّا وديموغرافيًّا--. صحيح أن المسلمين طالبوا منذ الاستقلال بمشاركة أكبر في السلطة، ولكن روية معتدليهم، وممانعة المسيحيين، لم تمكِّنا التيارات القوية في المنطقة، دينية كانت أم قومية، أن تجرف الصيغة اللبنانية، وبهذا بقيت حركتهم في مواجهة المارونية السياسية مضبوطة الى حد ما في أطر من الثوابت للحفاظ على لبنان.
وكان المظهر الأبرز لتفهم المسلمين، موافقتهم في اتفاق الطائف، على تقاسم السلطة مناصفة بغض النظر عن التفوق العددي في تلك الفترة، لَكأنهم أدركوا أن الفريق المسيحي، مع كونه طرفًا أصيلاً في الشرق، لا يمكن أن يشكل عليهم خطرًا حقيقيًا، وأنه سيبقى في حالة دفاعية، كونه محاطًا بمليار مسلم.
ولا شك أن مقاومة الضغوط التي انصبت على المعتدلين منهم لم يكن سهلاً في ظل تنامي المد الرديكالي، الذي لم يزل يهب على لبنان منذ مطلع القرن العشرين. ولكن هذا لا يُعفي المسلمين عامة من أن مسؤولية الحفاظ على الصيغة اللبنانية، تقع على عاتقهم قبل أن تقع على عاتق المسيحيين، لأنه سيصعب على الفريق المسيحي أن يجد صيغة بديلة قابلة للعيش تكون أنسب له من الصيغة الحالية، أما الفريق المسلم فهو الذي عليه أن يحزم رأيه نهائيًّا بهذا الاتجاه لتزيد حصانة لبنان من توترات الخارج. سيما وأن الفريق المسلم يستشعر الأمان في محيطه خلافًا للفريق المسيحي المثقل بتاريخ من الاضطهاد والشعور الأقلوي.
وفي المقابل فإن ثمة مؤرخين سوف يلومون مسلمي لبنان على أنهم كانوا ودّيّين أكثر من اللازم، لاسيما بعد الطائف، إذ رضوا بأن ينضووا تحت جناح الأقلية المسيحية، وتخلوا عن حقهم بالسلطة التي تكون للأقوى بحكم الواقع، أو للأكثر بحكم الديموقراطية، وسيعتبر أن المسلمين كانوا الأقوى عند قيام دولة لبنان بمحيطهم، وعند الطائف كانوا الأقوى داخليًّا. وسيرى هؤلاء أن زعماء المسلمين بتساهلهم ورضاهم "بالاستئثار" المسيحي منذ الاستقلال، خلقوا نوعًا من عدم التوازن وجعلوا البلد تعيش حالة من الاضطراب تُرجمت حروبًا أهلية وتعثّرات متكررة أخّرت البلاد وأقلقت العباد. وضمن هذا الفريق المنتقد هناك من سيبرّر وُدِّيَّة الفريق المسلم بأنه إنما قبل على مضض وإكراه قيام دولة لبنان الكبير، حيث رأى بمشاركة المسيحي في السلطة ثمنًا محمولاً لخروج المستعمر الفرنسي، مع ما يستجلبه الاستعمار من صور للحملات الصليبية، التي لم تزل صاحية في ذاكرة المسلم ووجدانه. ومع ذلك فقد ظل يتحمل معاناة "الإقصاء" عن القرار طوال فترة "الاستئثار" المسيحي، ما عُرِف بالمارونية السياسية، وهو يتحيَّن الفرصة السانحة لينقضّ وينتفض، ويقلب المعادلة، ولذلك فقد استغلوا كثيرًا من الفرص الداخلية والخارجية لتحويل لبنان بشكل أو بآخر إلى بلد إسلامي، وربط خطه السياسي بباقي البلاد العربية والإسلامية، تحت عناوين متنوعة من وحدة عربية، إلى أمة إسلامية إلى تبني الثورة الفلسطينية، والذهاب بعيدًا لاعتبار أن الفلسطينيين هم جيش المسلمين في لبنان. الأمر الذي قد يرى فيه بعض المفكرين تقويضًا لأهم تجربة ريادية في العالمين العربي والإسلامي، حيث إنهم، ضمن قاعدة لبنان لنا أو نحرقه، أضعفوا الدولة الوحيدة في الشرق التي تبنت الحداثة والحرية، وقامت على المؤسسات، وآمنت بالديموقراطية والانفتاح وحقوق الإنسان، بعد أن أصبحت منارة للثقافة والعلم والأدب والفكر والفن في المنطقة والعالم.
ولا تُغني أي من النظريتين عن الأخرى، لأن الحقيقة التاريخية هي مجموع كل الروايات التي تبدو متناقضة. وانطلاقًا مما سبق نعود من المستقبل إلى الحاضر، ونطرح الأسئلة التالية، ونحاول الإجابة عليها:
ما هو وضع المسلمين في العام 2007؟ وهل استفادوا من تجارب الماضي؟ وهل كان من الممكن أن يكون الوضع أفضل؟ وإلى أين تتجه الأمور بحسب مجريات الأحداث؟ وما الذي ينبغي عمله؟
في العام 2007 لم يواجه المسلمون أي مشكلة في المشاركة بالسلطة، بل إن باقي الأفرقاء يتحدثون عن استئثار المسلمين، حتى إن البعض ينظر إلى اتفاق الطائف على أنه صيغ لتعزيز الحضور المسلم على حساب الحضور المسيحي. لكن المشكلة البارزة التي واجهت المسلمين هي الانقسام المذهبي الذي لم يكن يومًا بهذه الحدة، ما أدى إلى تعطيل البلد. وأخطر ما في هذا الانقسام أنه يتجاوز الحدود اللبنانية، ويفرض على اللبنانيين أن ينتظروا توافق الأطراف الكبيرة التي تعكس هذا الانقسام، لينعكس على الوضع الداخلي في لبنان، لأن كل طرف من المذهبين الإسلاميين رهن ولاءه لدولة إقليمية لأسباب أديولوجية وبرغماتية.
ولا شك أن تجارب الماضي أغنت المسلمين نضجًا سياسيا، فقد تواصلوا مع مراكز القرار في المنطقة منذ مئات السنين، ولم يشعروا بالخوف أو بعقدة الأقلية، بل كان تواصلهم مع الأمويين فالعباسيين ثم العثمانيين تواصلاً مع سلطة تحمل قدرًا كبيرًا من التوجهات المشتركة، لا سيما أن السمة الأبرز التي حددت ولا تزال هوية الإنسان في الشرق الأوسط هي الدين، وعليه فقد كان تعامل المسلمين مع السلطة تعاملاً مع "الأنا" وليس مع "الآخر"، خلافًا للمسيحيين.
وقد عاين المسلمون في فترة ما بعد الاستقلال، كيف ميّزهم لبنان بصيغته التعددية عن سائر محيطهم العربي والإسلامي، ثقافيًّا وحضاريًّا وعلميًّا، فقد عرفوا الحرية والديموقراطية واستفادوا منهما إبداعًا وحضورًا إنسانيًّا، في حين لا تزال شعوب المنطقة قابعة تحت وطأة الديكتاتوريات. وقد حققوا من انفتاحهم على الغرب مكاسب اقتصادية، واكتسبوا معارف جمة، من خلال الجامعات التي شيّدها الغرب المسيحي في لبنان، فكانت ولاتزال الأهم في الشرق الأوسط وأغنت لبنان بالعلم والمعرفة والفكر والثقافة. أضف إلى ذلك أنهم لم يقطعوا بسبب علاقتهم مع الغرب صلتهم بالشرق، بل إن هذه الصلات تعززت إن كان مع مصر والسعودية والأردن وسوريا وإيران وتركيا. غير أن كل هذا النضوج لم يثمر في ترسيخ قناعة المسلمين بأولوية الوفاق الداخلي، وتقدمه على العلاقات الخارجية وسائر الولاءات.
وهل كان من الممكن أن يكون الوضع أفضل؟ من الواضح أن بعضًا من الثقة بين الفرقاء اللبنانيين، ومزيدًا من التفاهم حول إدارة البلاد كان ليحول دون نشوء الحروب والتوترات، وكان ليؤمن عامل الاستقرار الذي يتعطش له اللبنانيون، والذي كان لينعكس بشكل إيجابي على كامل النسيج اللبناني بمختلف أطيافه. فمن الجانب الإسلامي الذي يعنينا في هذه المقالة، فإن الثقة المطلوبة كان يمكن الوصول إليها لو لم تتعمق الخلافات لتصير انقسامات وولاءات جعلت كل طرف يتهم الآخر بأنه لا يملك قراره، وبالتالي لا يمكن الوثوق به. كما أن الشريك الآخر، أقصد المسيحي لا يزال بحاجة لطمأنة، فهو لم ينسَ بعد ما حصل له بعد الطائف من تغييب واضطهاد، على مرأى ومسمع شريكه المسلم، دون أن يقوم الأخير بفعل ما يكفي لمنع معاناته.
أما إلى أين تتجه الأمور؟ فلا شك أن لبنان اليوم يواجه تحديات كيانية، فإما أن يعي الجميع مسؤوليتهم، ويشاركوا في اجتراح الحلول، ويتقبلوا بعضهم كشركاء حقيقيين في رؤية واحدة للوطن، وإما أن يتحول لبنان من مجتمع غير متجانس إلى مجتمع متنافر.
والحقيقة الأعمق أن مسؤولية مسلمي لبنان تتجاوز وطنهم وشركاءهم فيه، وتصل إلى دورهم تجاه تحديات المسلمين في العالم، والتي تشمل عناويين عديدة؛ من أبرزها: الحداثة والعلمنة والعنف، ولا يزال مسلمو لبنان الأقدر على مقاربة هذه العناويين. صحيح أن التجربة التركية ستقدم مقاربة مهمة في عنواني الحداثة والعلمنة، إلا أن هذه المقاربة ستكون وفق أصول وأسس علمانية، ونجاح الإسلاميين إذا حصل لن يكون خالصًا لهم بل سيكون نجاحًا لتعايش الدينيين مع العلمانية، وسيقتصر نجاح الدينيين في السلطة على إدارة البلاد بشكل أفضل، وفسح المجال للنظام العلماني ليأخذ مجراه. كما أن موضوع العنف من زاوية "الآخر" ليس مطروحًا في تركيا المسلمة، إذ لم يبقَ اليوم أقليات ذات حجم يسمح لها بأدنى مشاركة في السلطة. وكذلك سائر التجربات المثيلة في العالم، فإن كل واحدة منها تبقى محتفظة بخصوصيات تحصرها في ظرفيها الزماني والمكاني، بينما يقدم النموذج اللبناني حتى الآن مقاربة متميزة، يمكن أن ينظر من خلالها إلى مستقبل علاقة المسلمين بالعالم، حيث تتمتع الأطياف اللبنانية بكامل شخصيتها، وعليه فإن مقاربة سائر القضايا ستكون ممثلة لمفاهيمهم وخصوصياتهم، دون أن يطغى عليها إيديولجيات أخرى، كما أن "الآخر" حاضر في النموذج اللبناني لشراكة حقيقية، وليعطي صورة عن تعامل المليار المسلم مع المليارات الخمسة الآخرين في العالم. فلبنان هو المكان الأصلح لاختبار علاقة المسلم مع "الآخر" المعاصر.
حتى الآن كان تعاطي مسلمي لبنان مع هذه الإشكاليات خجولاً، كما بقيت خطواتهم ناقصة، وإن كانوا حققوا نجاحًا مقبولاً فيها. فبالرغم من أن السمة العامة لمسلمي لبنان هي الاعتدال، إلا أن الخطاب الديني لم يتحرر من رديكالية ما تزال تبشر بهزيمة الغرب وتعد العدة لمواجهة عسكرية، وتنسب كل من لا يُجاريها في هذا الطرح إلى التخاذل والتفريط بل والارتداد عن الدين في بعض الأحيان.
وحتى يتمكن مسلمو لبنان من المشاركة في صياغة ثقافة العصر الأنسانية، والإسهام إيجابيًّا في تطور العالم، لا بد أن يتفقوا، أو على الأقل أن يعي مفكروهم أن دورهم ليس المشاركة في حروب بين الشرق والغرب، أو تأجيجها، بل دورهم إظهار سماحة الإسلام، والمساحة الواسعة التي أوجدها ليتواصل الإنسان مع أخيه الذي يلتقي معه في كثير من المثل والقيم الإنسانية، مصداقًا للآية القرآنية الكريمة: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
إن وراثة الأنبياء والسير على هداهم، يُحتِّم على أصحاب الرسالات متابعة رسلهم في وظيفتهم القيادية، التي ركزت على معالجة المشاكل القيمية، وقد أوضح الرسول الكريم أن لب رسالته إصلاح القيم فقال: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الخلاق".
وعليه فمسؤلية مسلمي لبنان أن يتجاوزوا صراعات السلطة والطوائف والمذاهب في البلد الصغير، ليطلوا من خلال لبنان، على مسرح الإنسانية الكبير، ويقدموا عرضًا على المستوى الإنساني الشامل، ويبرهنوا للعالم أنه ليس ثمة إشكالية في الإسلام مع "الآخر" ولا مع الحداثة، بل إن الدين يستوعب الحداثة، ويحترم "الآخر"، وأن العنف ليس هو الخطاب الموجه "للآخر"، وهم بهذا يبرئون ساحة الدين مما ألحقه به تصرف المسيئين، ويقدمون خدمة جليلة على درب مصالحة الإنسانية المتخاصمة.
إن لبنان "رسالة" رسولية للعالم إيصالها مسؤولية يتحملها أصلاً المسلمون أتباع رسول الرحمة. فهل ستصل "الرسالة"؟
Michael Kouly
No comments:
Post a Comment