Sunday, December 9, 2007

لبنان تجربة رومنسية

لبنان تجربة رومنسية

بقلم: مايكل كولي

(الكاتب رئيس سابق لرويترز الشرق الأوسط ومتخصص في القيادة الأستراتيجية من جامعتي هارفرد وبرنستون الأمريكيتين. للتعليق: Michael.kouly@post.harvard.edu)

لا عجب أن يكون "البانادول" أشهر دواء في لبنان، فأخبار لبنان تسبب الصداع؛ وخاصة في الأسابيع الماضية حين انشغل العالم بموضوع الانتخابات الرئاسية، فوفود قادمة ووفود مغادرة، واتصالات وتصريحات، ولقاءات ومشاورات، حتى إن الملاحق لنشرات الأخبار يشعر بدوار بسبب الفتق والرتق، والتكرار الرتيب للأسطوانة عينها. ويزداد العجب والتعب عند تتبع المحللين، وما أكثرهم، وهم يُدلون بدلوهم ويبدون رأيهم، وإذ ذاك يُطرح السؤال: كيف يعجز هذا البلد الصغير عن إدارة شؤونه وفيه هذا الكم من المفكرين القادرين على تحليل أحداث العالم بأدق تفاصيلها، والتنظير في معضلة البيضة والدجاجة ومعضلات أعقد؟

الاهتمام الدولي الذي ظهر بالزيارات والاتصالات المكثفة، أثبت مرة جديدة أن لبنان لا يمتلك مقومات الاستمرار الذاتي، وهو لا يزال بحاجة لرعاية دولية خاصة. ومع احتفاله المفترض بعيد استقلاله الرابع والستين، فإن لبنان لم يتجاوز كثيرًا كونه فكرة رومانسية تداعب مخيلة "المؤمنين به" دونما اقتدار على تحقيق هذه الفكرة حتى الآن.

قد يغضب هذا الكلام الحالمين المصرين على تبني فكرة لبنان، على النحو الذي تتراءى لهم، وهذا أمر طبيعي؛ فلبنان بلد جميل، يشغل بقعة جغرافية مميزة، والقيم التي كان ليجسدها سامية ونبيلة على المستوى الإنساني، لكن الحقيقة قد لا تكون سارة. فقد فشل لبنان في المعيار الأساس لنجاح أي كيان وهو توفير حياة كريمة لأبنائه. كما أنه لا يزال عاجزًا عن إقرار منطق مشترك يحتكم إليه أبناؤه لحل النزاعات فيما بينهم، ففي حين يتمتع الغاب بشريعته الخاصة، يبقى لبنان بلا شريعة أو شرعية أو مشروع، بل كثير من الشعارات الفارغة، والشوارع المكتظة والمتصادمة.

وعلى كل حال فهذه لم تكن المرة الأولى التي يشغر فيها كرسي الرئاسة الأولى في لبنان، دون أن يوقف هذا الفراغ استمرارية الحياة اليومية. وقد يحسب البعض أن هيبة النظام وعبقرية واضعي الدستور هما ما سَلَّم البلاد من الفوضى وحفظ العباد من حال الجمود وشَرَك الفتن، وكان هذا الحسبان ليكون وجيهًا لولا أن الحديث عن لبنان، فالهيبة سقطت مرات ولا تزال تتعثر، والدستور يُنحى حين تدعو الحاجة، ثم يُدعى فيأتي صاغرًا. وقد يذهب آخرون إلى أن ما حال دون المحظور، ونجَّى من المحذور، هو وجود المؤسسات التي قامت بدورها على أتم وجه بحيث غطت النقص وسدت الثغرة. وكان هذا ليكون مقبولاً لولا أن الحديث عن لبنان، فالكرسي الرئاسي فارغ، ومجلس الوزراء نصف فارغ ومتنازع على شرعيته، أما مجلس النواب فمعطل، والسلطة الأمنية لا تتصرف إلا بعد تأمين الغطاء السياسي من أمراء الطوائف.

غاية ما في الأمر أن هذا الحدث، أو بالأصح عدم الحدث، دلّ من جديد على أن السلطة في لبنان موجودة في مكان آخر غير المؤسسات، ما يعني وجود نوعين من السلطة؛ السلطة الرسمية Formal Authority التي هي سلطة شكلية، والسلطة غير الرسمية Informal Authority والتي هي السلطة الفعلية. وأن أصحاب السلطة الفعلية، الذين هم آباء العائلات اللبنانية، أي زعماء الطوائف، متوافقون، من حيث المبدأ، على تظهير هذه السلطة في شكل المؤسسات، علّهم بذلك يتوصلون إلى صيغة دولة ووطن، لكن مجريات الأمور كانت دوما تعاكس هذه الإرادة الخجولة لينكشف أن اللبنانيين لا يزالون ينتظرون ولادة لبنان كدولة تشبه سائر الدول، وأن شعارات: "الجمهورية الثانية" و"الجمهورية الثالثة" ثم "الاستقلال الثاني" شعارات مبالغ فيها، والأصح أن تستبدل بشعار متواضع يسعى أولاً إلى "ولادة لبنان وطنًا للحياة والإنسان".

إن مراجعة التاريخ تُظهر أن لبنان الجنين لم يحظَ بمقومات الاستقرار فضلاً عن مقومات الاستقلال، وبالتالي فهو قد يُضَيِّع فرصة الاستمرار. فالولاء للوطن طغت عليه ولاءات أُخر، والسيادة غيبها تدخل واستدارج دول المنطقة والعالم، أما الحرية فهامش ضيق جدًا يناور فيه اللبنانيون من خلال خيارات محصورة، أضف إلى ذلك أنهم لم يتحرروا بعد من سجن ولاءاتهم الخانقة.

قد يفرح البعض عندما يُقال: إن لبنان عصيّ على الشدائد. وإنه كطائر الفنيق، يقوم كل مرة من وسط الرماد، لينطلق حيًّا من جديد. وإن الشعب اللبناني تحمل ما لا يستطيع غيره من الشعوب أن يتحمله. وإنه رغم كل الأزمات بقي موحدًا، لم ينقسم أو يتقسم، فهو كما يفتخرون "أكبر من أن يبلع، وأصغر من أن يقسم". ولكن إلى متى سيظل طائر الفنيق يخوض تجربة الموت، ثم ينفضها عن نفسه. ألم يتعلم هذا الطائر أن الأجدى له أن يبتعد عن الموت، ويكتفي بمعانقة الحياة. ألم يكتف اللبنانيون من أن يكونوا مصدر إلهام يعلمون الناس كيف ينفضون السقوط ويقفون من جديد. ألا ينبغي أن يتحمسوا لتقديم نموذج جديد يلهمون فيه الناس أن يتجنبوا الانزلاق ويتابعوا الانطلاق.

لبنان صمد، نعم. ولكنه صمد في غرفة العناية المركزة، وهو يحيا على تنفس اصطناعي من خلال دعم سياسي واقتصادي وأمني. ممتع هو القول إن التجربة اللبنانية رغم كل الصعاب لم تفشل، ولكن أليس من الواجب الاعتراف بأنها أيضًا لم تنجح، ويبدو أن كثيرًا من الناس فقدوا الإيمان بأنها قد تنجح بصيغتها الحالية، وأبواب السفارات خير شاهد على ذلك. لقد حان الوقت ان يواجه اللبنانيون الحقائق المرة وأن يبدؤوا البحث عن صيغ جديدة أكثر قابلية للحياة.

إن المعيار الحقيقي لنجاح النموذج اللبناني، أو أي نموذج آخر أو صيغة أخرى، هو مدى قدرته على تأمين العيش الكريم لأولاده، دون خوف أوقلق، وإعطائهم أملاً وإيمانًا بالغد، وتوفير مساحة يكتشفون فيها فرادتهم ويحيونها، ليكونوا مصدر إلهام للآخرين. ولكن إلى أي حد نجح لبنان في تحقيق هذا الهدف؟!.

قد يبدو هذا الكلام قاسيًا، وأن المطلوب هو الرحمة في النظرة إلى اللبنانيين، وتفهم واقع حالهم، وهذا حق. لذا فمن الإنصاف أن نقول إن المهمة التي أنيطت باللبنانيين لم تكن سهلة، فقد تعيّن عليهم أن يبنوا هيكلهم من مواد مختلفة، وفي بعض الأحيان متنافرة، فكانت النتيجة بناء هشًّا يحتاج أن يتدخل الآخرون مرة بعد مرة لحمايته من السقوط والتهاوي. والواقع أن سبب هشاشة هذا البناء هو عينه سبب أهميته وتفرّده، لقد قيل قديمًا إن الحياة هي تصالح الأضداد. ولبنان هو نموذج بديع لهذه المصالحة.

أن اللبنانيين أثبتوا كفاءتهم وتفوقهم في أصقاع الأرض، وهم لم يفشلوا في مشروع وطنهم عن عجز أو ضعف أو قصور، بل لأن المشكلة التي تواجههم قد يكون حلها مستحيلاً في هذا الشرق المتخبطً، فالتجربة تتطلب من اللبنانيين أن يتجاوزوا عبء التاريخ دون أن ينفصموا عنه، وهذا صعب جدًا على أي فرد أو شعب. لقد حملت الذاكرة اللبنانية قصصًا كثيرة، لم تكن بمعظمها مفرحة، واللبنانيون ينظرون إلى بعضهم البعض من خلال كمٍّ هائل من الإرث المطمئن حينًا، والمحبط أحيانًا، وفي الوقت عينه عليهم أن يكونوا شعبًا واحدًا.

لبنان حالة مصغرة تجسد العالم، فالشعوب تحمل مثل هذا الإرث الذي تنظر من خلاله للآخر، وسوف يتعيّن عليها، عاجلاً أم آجلاً، أن تخطو باتجاه المصالحة والانصهار، لئلا تأكل الحروب الحياة. وبينما يثابر اللبنانيون على هذا الاتجاه لأسباب كثيرة، رغم التاريخ الدامي، تحصن باقي الدول شعوبها المتجانسة بالمسافات، وببناء جدران العزلة، وزيادة قيود التواصل من جوازات السفر والتدابير الأمنية على الحدود وفي المطارات.

إن الظروف المحيطة في الوضع اللبناني وسرعة التغيرات زادت من الضغوط الملقاة على عاتق اللبنانيين، ولعل من الحكمة أن يُصار إلى التخفيف من هذا الحمل، والعمل على التدرج في إنجاز نموذج تقبل الآخر والانصهار معه، لأن عملية الانصهار القسرية والمتسارعة للعناصر المتنافرة سوف تحدث المزيد من اضطرابات وانفجارات كالتي ما زالت تحصل منذ تاسيس لبنان. وعلى الرغم من جميع التبعات التي تنشأ عن هذه العملية لا يزال اللبنانيون يتابعون السعي في الحوار والتواصل. ربما لم تكن النتائج مشجعة حتى الآن، ولكن الذي يشجع ويبعث الأمل هو إصرار اللبنانيين ومواصلتهم المسير دون كلل أو ملل. وأنهم وعلى رغم الدماء التي سالت بينهم في الحرب الأهلية أصبحوا اليوم، بحسب الظاهر، أقرب إلى بعضهم، وأكثر تسامحًا وقدرة على الغفران من ذي قبل. حتى بعض أولئك الذين كانوا بالأمس القريب غلاة التطرف، باتوا حريصين على وجود الآخر في مشروعهم للوطن ونظرتهم إليه، بعدما كانوا يستثنونه منه.

ومما يُبشر بمسار إيجابي وجود تحالفات وتفاهمات داخلية ناشئة عن اختلاف في الرؤية والمشروع السياسي عوضا عن الاصطفافات الطائفية التي بدأت تتراجع نوعًا ما بفعل تداخل التحالفات وتنوعها. صحيح أن هذه التحالفات قد تحمل أبعادًا تكتيكية، ولكن استمرارها سوف يؤدي إلى تعمقها وإلى مد مزيد من الجسور وبناء مزيد من الثقة، كما تسهم في نشر ثقافة تفهم الآخر، مع ما يُبنى على ذلك من بذور لمستقبل أفضل.

على أن هذه الإشارات تبقى هشة وضعيفة، ما لم تُنَمَّ وتستثمر بأعمال قيادية تُحرِّر الأفراد من الموروث الذي يزيد الحواجز ويحفز الهواجس ويقلل الثقة. أعمال قيادية تعزز القيم المشتركة وتطورها لتكون أشمل وأكثر إنسانية، وبهذا يمكن للبنان الوطن أن يولد من رحم الطوائف، ولو بعد حين.

إن التحدي الذي تواجهه أغلب المجتمعات والدول هو التطور، بينما قدر لبنان أن يواجه تحدي الوجود، حيث تشبه ولادته محاولة بناء منزل في مهب الإعصار، وهذا التحدي يتطلب أعمالاً قياديّة جبارة على وزن شخصيات عملاقة مثل غاندي وماندلا. وأول المدعوين لممارسة هذا العمل القيادي هم الزعماء والسياسيون، الذين وبالرغم من تزايد انتقادات اللبنانيين لهم، يبقون الأقدر على استعمال ادوات سلطتهم في التواصل مع الجمهور، وضبط حركته، وتوجيهه بشكل بناء، إضافة إلى أنهم يشكلون نقطة التقاء عوامل الضغط الهادفة إلى إنجاح البلد أو إفشاله، وقد أحسنوا، إلى حد ما في التعامل مع هذا الكم الهائل من الضغوط، وعزله جزئيًّا عن المجتمع وحمايته من التقاتل.

أن التحدي الذي يواجه الطبقة السياسية هو أن تتوصل إلى صيغة تسمح بقيام الوطن وإطلاق مؤسسة الدولة دون أن تُلغى الطوائف أو تذوب. وإن ما يجب أن تضعه نصب أعينها هو أن العمل القيادي يسعى إلى تعزيز الفرص، كالتي هي سانحة الآن، والاستفادة منها، بما يخدم الحياة وتطورها.

الفراغ الحقيقي الذي يهدد لبنان هو فراغ مشروع التوافق لبناء لبنان الدولة والرسالة، وفراغ قلوب اللبنانيين من ما يلزم من شعور الرحمة تجاه بعضهم البعض، وهذا أقسى من فراغ في المناصب. فالرؤوس والقلوب الفارغة أخطر بكثير من الكراسي الفارغة.

November 2007

Michael Kouly

No comments: