Wednesday, January 23, 2008

العماد سليمان ليس "المنقذ"

العماد سليمان ليس "المنقذ"

بقلم: مايكل كولي

(الكاتب رئيس سابق لرويترز الشرق الأوسط ومتخصص في القيادة الأستراتيجية من جامعتي هارفرد وبرنستون الأمريكيتين. للتعليق: Michael.kouly@post.harvard.edu)

فخ جديد يُنصَب وخيبة اخرى تتهيئ. فمع تطلع اللبنانيين إلى مخرج من أزماتهم السياسية، برز هذه المرة إجماع حول قائد الجيش اللبناني ليكون الرئيس العتيد "المنقذ". واستطاعت بذور هذا الإجماع أن تحصد التأييد العربي والدولي لخيار التوافق على الرئيس الذي سرعان ما هتفت له الجماهير مستبشرة وناثرة رايات الترحيب به مخلّصاًَََ. فاللبنانيون سئموا حال الأحتضار التدريجي، وتعبوا من تحمل أكلاف الاختلاف على السلطة الباهظة والذي دمّر مختلف جوانب حياتهم. كثير من الناس لم يعودوا قادرين على الصبر كما اعتادوا، ويعاودهم الآن شعور افتقدوه هو شعور الانتماء إلى وطن حقيقي. أن لهم كامل الحق في الحياة وفي الحُلُم. حقهم أن يحلموا وأن يتحقق حلمهم، فمطلبهم ليس تعجيزيًّا بل هو بالغ التواضع؛ جلّ ما يصبون إليه هو أن يُنقَذَ بلدهم من الوقوع في هاوية الحرب والدمار مرة اخرى، وأن تعود حياتهم إلى طبيعتها، ليتمكنوا من العيش الهنيئ في بلدهم مع أولادهم. أكثير على اللبنانيين هذا الأمل؟!. أمل يُغتال كل يوم لكنه يعود إلى الحياة فيُغتال مجددا. فاذا اغتيل الأمل الحالي فهل سيعاود الحياة؟.

وفي رحلة الأمل المتجددة يتعلقون بعناوين، وأحيانًا بشعارات، وفي هذه المرحلة العنوان هو رئيس الجمهورية. وحُقَّ لهم؛ فالرئيس، كونه ممثل السلطة ورأسها، رمز أساسي للاستقرار والأمان والحماية ووضوح الرؤية والتوجيه والوفرة، ولن يضعف هذه الرمزية حجم صلاحياته أو الجدل حولها.

ومع افتقار لبنان للمضامين التي يرمز إليها الرئيس، تشتد الحاجة إليه ويعظم التعويل عليه. فالمرحلة بالغة الحرج؛ الأفرقاء السياسيون منقسمون انقسامًا حادَّا، والحوار انقطع، ولغة التخاطب فيما بينهم خلعت أستار الهدوء وتسلحت بالألفاظ النابية والاتهامات الجريئة إلى حدّ التهور، والنبرات المرتفعة أقرب إلى الصراخ، حتى حركات الوجوه والأيدي والأصابع صارت تشبه الوعيد والتهديد، إن لم نقل الشتائم، وكل واحد تَمَترس في مواقفه وعباراته وخطاباته وشوارعه ومنطقته وطائفته وجمهوره وحلفائه بالداخل والخارج. والجو لبدته غيوم القلق التي ألجأت اللبنانيين للبحث عن "أب" يستظلون فَيئه ويتمسكون بطرف ثوبه، لا سيما المسيحيون الذين افتقدوا "أباهم" منذ زمن واشتاقوا رجوعه إليهم.

وعلى قدر الآلام تأتي الآمال، والأمل فسحة فسيحة، وواحة رحبة، لا يستطيع أحد أن يحصرها او يحظرها. ولكن ثمة أخطار تكمن في مراتع الآمال، ومن أدهاها أن يتوهم اللبنانيون أن الأمور كافة سوف تتحسن فور وصول الرئيس إلى قصره، فالاغتيالات والأنفجارات ستتوقف، والأمن سيستتب، والاقتصاد سيتعافى، وشبح التصادم سيختقي، وعملية المصالحة الوطنية ستنطلق على قدم وساق، لتمحو مظاهر الشقاق وتقتلع بذوره، ويعود اللبنانيون إلى "سابق" لحمتهم، ليتمكنوا إذاك من استدراك الفرص التي فوّتوها، ويلحقوا ركب التنمية والمشاريع التي تعود على الوطن بالخير والوفرة وتُعيد إليه أبناءه ليمنحوه ألق الحياة، بعدما أصابه قلق الموت.

ومن الإنصاف الإنباه إلى أن مثل هذا التوهم الساذج ليس حكرًا على شعب بعينه، فالدراسات التاريخية للمجتمعات تظهر أن أفكار الشعوب والمنظومات تشبه في براءتها وبساطتها تفكير الأطفال. ولكن الخطير في هذا الحلم أن يكون حجم المبالغة فيه مفرطًا بحيث يُجافي المنطق ويبتعد عن الواقعية، وأن هؤلاء الحالمين الذين استرسلوا وراء آمالهم فلم يحسنوا قراءة الحالة الراهنة ولا تشخيصها بشكل صحيح، هم في الحقيقة يُعدُّون أنفسهم لخيبة أمل جديدة، تكون في كل مرة أقسى من سابقاتها. فعلى اللبنانيين جميعًا أن يدركوا أن حجم التعقيدات في قضيتهم أكبر من أن يمكن لشخص واحد أن يحلها أو ينهض بالبلد وحده ولو كان رئيسا وعماد. والأخطر في هذا التصور ما يضمره الوعي الجماعي فيه، فالأبحاث الأكاديمية تشير الى أن هذه الآمال العراض المعلقة على شخص واحد، أو فريق ما، ليست أكثر من آلية تهرب يبتكرها المجتمع أو المنظومة لتجنب العمل work avoidance وهم يُشبِّهون المنظومة بالماء التي تبحث عن أسهل الطرق. وتسبق هذه الآلية نمط من التصرف حيث تتبرأ المنظومة أولاً من أي مسؤولية في ما آلت إليه الأمور وتبحث عن شماعة تعلق عليها الأخطاء، وتحملها كامل المسؤولية، وأكثر ما يُريح المنظومة نظرية المؤامرة او القاء اللائمة على العدو الخارجي. وفي حال لم تفِ هذه النظرية بالغرض، يبدأ البحث عن أشخاص في موقع المسؤولية، يُحمّلون الأخطاء ويُنعتون بالتقصير والخيانة والتفريط، ويكونون كبش المحرقة لترتاح المنظومة من الشعور بالذنب أو التقصير وبهذا تتجنب العمل الصعب المطلوب لمواجهة ومعالجة الحقيقة المرة للذات.

والواقع أن نظريات المؤامرة التي تلقى رواجًا في أحاديث الناس وكذلك فرضيات اتهام الزعماء والمسؤولين وشتمهم، لا تستطيع اطلاقا أن تبرئ أفراد المجتمع أو أن تعفيهم من مسؤوليتهم مما حصل سابقًا أو مما سيحصل لاحقًا، فهذه الأمور لم تكن لتحصل لو لم يسمح اللبنانيون بحصولها، أو يشاركوا فيها. فمعظم الأحداث جذورها داخلية ولو كان بعضها انعكاس لمشاكل الخارج، وهي حدثت بأيدي اللبنانيين أنفسهم، وباندفاعهم هم، والزعماء يمثلون جمهورهم بشكل دقيق، بكل هواجسه ورغباته، فكما تكونوا يولى عليكم، وهذا الجمهور يبارك، بصمته او فعله، سائر خيارات الزعماء ويدعمهم فيها، رغم تذمره السطحي والمسرحي بين الحين والآخر، وكثيرًا ما يطالبهم بخيارات أشرس وأشد. ومن الضروري الإشارة إلى أن الزعماء في بعض الأحيان يلعبون دورًا إيجابيًّا في كبح تطرف الجمهور، ويروّضون تطلعاته في أطر أضيق مما يَطلب وضمن منطق المعقولية وبعد النظر.

وهذا التحلل من المسؤولية الفردية والجماعية يُفضي في نهاية الأمر إلى أعفاء المنظومة من القيام بأي دور في تصحيح أحوالها وإنقاذ الوطن فتكتفي بالنظر إلى ما تفعله الطبقة السياسية أو انتظاره. وها هي المنظومة الآن تعد العدة لاختيار ضحية جديدة تحملها مسؤولية اصلاح تراكم عقود من أخطاء المجتمع عبر الإغراء بالمناصب والألقاب، (فخامة الرئيس، المنقذ، البطل، المخلّص، القائد...).

من هنا تأتي ضرورة على أن يرفض الرئيس العتيد لقب العماد "المنقذ"، ويسعى ليكون سليمان "الحكيم"، والحكيم يدرك جيدا أنه يستحيل على شخص واحد أن يقوم بمفرده بعملية الإنقاذ، وأنه لنجاح هذه العملية يجب أن تتضافر جهود كل المنظومة، وأن يشترك الجميع كل من موقعه ومن خلال الالتزام بمسؤولياته ودوره. وأي خطاب خارج عن هذه الرؤية هو خطاب تغريري خدّاع، والتاريخ البعيد والقريب يشهد أن الأشخاص الذين تطوعوا لشأن العام وقرروا إنقاذ المجتمع "ببطولة"، واجهوا الفشل وشتمهم في النهاية الأشخاص نفسهم الذين هتفوا لهم في البداية، إلا القليل النادر من الذين كان لهم مقاربة قيادية ناضجة أشركوا من خلالها جميع أفراد المجتمع في مشروع الإنقاذ ووضعوهم فعلا أمام مسؤولياتهم، ومع ذلك لم يسلم منهم إلا أقل القليل، وأوضح برهان على ذلك أن نعرف كيف انتهت حياة الكثير من الأنبياء والمصلحين.

وعليه، فإن أي إنسان يتسلم المسؤولية الرئاسية في لبنان يجب أن يتجه منذ اليوم الأول ليوضح للجميع أنهم مشتركون اساسا معه في المسؤولية، وشركاء في النجاح والإخفاق على حد سواء، فإن شاؤوا فليعملوا ليتحسن حالهم، وإن شاؤوا فليتقاعسوا ويلعنوا دهرهم ومن شاؤوا، ويتحملوا هم وأبناؤهم من بعدهم ما كسبته أيديهم، لينشد أولادهم مع المعرِّي: "هذا جناه أبي عليّ".

وانطلاقا من الأدب القيادي، أقترح على ضوء ما قدمت ان تكون اول كلمات الرئيس الجدبد في ما يسمى "خطاب القسم" قريبة من روحية النص الآتي:

"أيها اللبنانيون، لقد ولد للبنان اليوم أمل جديد. وها هي امامكم فرصة غالية لتثبتوا للعالم أنكم ووطنكم تستحقوا الحياة. أريد أولاً أن أخبركم بصراحتي التي أتمنى أن تعتادوا عليها، ما يقول عنكم الآخرون، وكيف يقيّمون حظوظكم في النجاح. إنهم يقولون إنكم متخلفون، ولا يغيّر في هذا كونكم أنيقين، ويقولون إنكم مجموعات طائفية ومذهبية منقسمة ومتقاتلة، حجزت نفسها في غياهب واعباء قضايا التاريخ الحزينة، بينما يتسارع العالم من حولها نحو المستقبل والتطور ليُلاقي غدًا سعيدًا.

ويقولون أيضًا انهم قد ملّوا قصصكم وإن أي مجهود يبذل لمساعدتكم معنويًّا كان أم ماديًّا هو هدر وهباء، فأنتم قد أثبتم مرارًا أنكم لا تستطيعون أن تسيِّروا أموركم ولا أن تستقلوا بشأنكم، وفي حين يضحي عدد من الشعوب في العالم بالكثير للحصول على وطن، تتفننون أنتم بتدمير وطنكم الذي يصفه الكثيرون بأحد جنان الأرض. واعلموا انهم عندما ينعتونكم بهذا كله لا يفرقون بينكم إطلاقًا، فحتى لو اعتبرتم انفسكم متميزين عن بعضكم البعض فان العالم يراكم لبنانيون متشابهون.

لقد كان قدرنا في هذه الحياة أن نعيش سويًا، وهذا أمر علينا أن نعيه تماما وأن نقبله قناعة أبدية. إن مصيرنا واحد، فنحن جسد واحد وروح واحدة، ولو تنوعت خصوصياتنا، وقد كتب لنا ان كل ما قد يصيبنا فإنه سيصيبنا سويًا. فإن غرقت سفينتنا هلكنا في الموت معًا، وإن صعدنا بالقيامة فسنحيا معًا. إما أن نحيا معًا وإما أن نفشل معًا.

أدعوكم اليوم ليقود كل واحد منكم مسيرة قيامتنا معًا لنثبت للجميع أن توقعاتهم ورهاناتهم على فشلنا خاسرة واننا قادرون ان نحيا سويا، بل اننا لا يمكن ان نستغني عن بعضنا البعض او عن وطننا.

ايها اللبنانيون. إن شعاري بسيط: إذا لم ننجح نحن في بناء وطن للحياة، فعلينا أن لا نلوم أسلافنا، وأن لايلوم بعضنا بعضًا، وان لا نلوم الآخرين، وأن نتوقف عن لوم الأعداء الذين يفعلون ما يجدر بنا أن نفعله نحن، وهو أن نضع مصلحة بلدنا قبل كل شيء، وعلينا أن لا نلوم حتى المتآمرين لأن الاحتراز هو واجبنا نحن.

إن مسؤولية إعادة انطلاقة بلدنا نحو التقدم والحياة المستقرة والهانئة والمبدعة والرغيدة والكريمة، هي مسؤوليتنا نحن أولاً وأخيرًا. إنها مسؤوليتي كما هي مسؤولية الجميع بدون استثناء وعلى كل فرد منا أن يقوم بإنقاذ وطننا كل حسب طاقته وقدراته، ومن خلال موقعه ودوره، فالأفراد والمجموعات والمجتمع المدني وقطاعات المال والأعمال والإعلام والأحزاب والنُخَب والطبقة السياسية والرسمية والمؤسسات الروحية والتربوية والاقتصادية كلها مدعوة اليوم لواجب الإنقاذ. إن مساهماتنا مشتركين بلا استثناء هي التي سوف تحدد ما إذا كنا سننجح أو سنفشل.

ودعوني أؤكد لكم أننا إذا لم ننجح في العمل سويًا لخير بلدنا فسوف نجد أنفسنا نتفرج على العالم من حولنا يتسابق في تطوير حياته، بينما نضيع نحن في التقاتل والاضمحلال.

ايها اللبنانيون. أجدني اليوم أحمل إلى جانب رسالتي إليكم، رسالة أخرى للعالم، أقول له فيها: نحن لسنا متخلفين أو عبثيين أو هامشيين، نحن شعب يعشق الحياة والمعرفة والإبداع والجمال والفرح والكرامة، وسنثبت للجميع أننا نستحق شرف الانتماء لبعضنا ولهذه الأرض الطيبة.

أعدكم بأني سأقوم بواجبي بكل ما أوتيت من حزم وعزم وثبات وإخلاص، ولكني أطلب منكم كلكم أن تقوموا أنتم أيضًا بواجبكم بجد وأمانة والتزام لنبني وطنًا نحبه لكي يبادلنا الحب ويهتم لأمرنا، وطنا يفخر به أولادنا وأحفادنا والعالم اجمع... وطن للرحمة وللإنسان. عشتم وعاش لبنان".

January 2008

Michael Kouly

No comments: