Tuesday, May 13, 2008

الحياد خيار وهمي

الحياد خيار وهمي

بقلم: مايكل كولي

(الكاتب رئيس سابق لرويترز الشرق الأوسط ومتخصص في القيادة الأستراتيجية من جامعتي هارفرد وبرنستون الأمريكيتين. للتعليق: Michael.kouly@post.harvard.edu)

"من ليس معي فهو علي". كثر الحديث مؤخرا عن أهمية انتهاج الحياد كسياسة استراتيجية لحماية لبنان، أو غيره من دول المنطقة، من العواصف التي تهب على الشرق الأوسط، ما يذكرني بقصة الرجل المسكين الذي كان يسكن في قرية، وكان في هذه القرية عائلتان كبيرتان بينهما عداوة ونزاعات، ولقد رأى هذا الرجل أن يُنحي نفسه عن مشاكل العائلتين، فما كان منه إلا أن نأى عنهما والتزم حال نفسه، الأمر الذي لم يعجب كلا العائلتين. وبعد فترة من احتدام الصراع صار أفراد العائلتين يتعرضون له ويضايقونه، كما قاطعوا تجارته ورفضوا مصاهرته دون أن يجد من يدفع عنه أذاهم، ولم يكن العود إلى كبار العائلتين لشرح موقفه والطلب منهم أن يكفوا عنه أذى عموم الأفراد يحقق له راحة وأمنًا، إلا لفترات وجيزة. إلى أن ضاق ذرعًا بالأمر والتجأ إلى أحد الحكماء خارج القرية يستشيره، وأخبره هذا الحكيم أن الصبر أوالرحيل لا يجديانه نفعًا، وأشار عليه أن يدخل في حلف مع إحدى العائلتين، بما أنه ضعيف، وبهذا يحمي نفسه منها، وتحميه هي من العائلة الأخرى.

هذه القصة المبهمة الأسماء تكررت في التاريخ الإنساني، وقد عرف العرب في الجاهلية وبعدها نظام الأحلاف الذي غالبًا ما تلجأ إليه العائلات الصغيرة لتحمي نفسها من أذى الكبار. ذلك أن الحياد في بيئة منقسمة ومتنازعة يعود بمصاعب جمة على من يحاوله. فالحياد، كمبدأ، مخالف أساسا لقانون الطبيعة، لأن الإنسان جزء من المنظومة التي يعيش فيها، ووجوده في المنظومة مبني على علاقات نفعية متبادلة مع سائر أفراد المنظومة وهي تستفيد منه وقد تعتمد عليه، ولن يمكنه في غفلة من الزمن أن يتنكر لذلك ويعيد صياغة العلاقات من تلقاء نفسه دون الأخذ بالاعتبار موقف باقي الشركاء في ذلك. هذا الكلام ينطبق على أصغر الموجودات وأبسطها تمامًا كما ينطبق على أكبرها وأعقدها؛ فالجسم كل متكامل العضو فيه لا يستطيع أن يقرر متابعة عمله أو تحويره أو اعتكافه بعزلة عن عمل سائر الأعضاء وعن المستجدات التي تحصل في داخل الجسم وفي محيطه، وكذلك الإنسان في مجتمعه لا يستطيع أن يتابع تعايشه مع سائر أفراد المجتمع بشكل طبيعي دون أن يتأثر بالانقسامات والتفاعلات الحاصلة، وكذلك المجموعات كالأحزاب والدول لا تستطيع أن تستمر على ما هي عليه من طبيعة العلاقات مع سائر أفراد منظومة المحيط والمجتمع الدولي دون أن تتأثر بخلافات هؤلاء الأفراد، لأن سائر الأفراد سيعيدون تقييم العلاقة على قاعدة أن هذا الفرد المركب ( الفرد أو المجموعة أو الحزب أو الدولة) لم يناصرهم في هذا الصراع، لا سيما إذا كان الصراع وجوديًّا، أو عندما يتعرض أحد الأطراف إلى اعتداء ويصبح ضحية، أو يصنف نفسه كذلك، لأن ترك مناصرته آنذاك يؤدي إلى فقدان الثقة بأخلاقيات المحايد ووقوفه مع مبادئه وقيمه، ما يحعل النظر إليه على أنه خائن أو متواطئ مع الظالم، على ما جاء في المثل: الساكت عن الحق شيطان أخرس.

وفي حال استطاع فريق أن ينهج سياسة الحياد ويتبنى جهة الوسط، فإن هذه المحاولة ستكون مؤقتة ولن تقوى على الاستمرار، لأن الحياد موقف حاد، وهو في كونه موقفًا، تمامًا كالانحياز، إلا أنه أصعب، لأن إمساك العصا من الوسط يحتم البحث عن نقطة الارتكاز، بينما إمساك الطرف يسمح بإمساك العصا من سائر مساحاتها باستثناء نقطة الوسط.

كما أنه كلما زاد الصراع حدة ستزداد الضغوط على الحيادي لا سيما في الصراعات المصيرية وعند الاحتياج إلى دعمه، كما سيشكك سائر الأفراد بحياده، مما يجعله خصمًا للجميع. وبعد محاولته أن يتجنب معادة طرف من الأطراف يصير عدوًّا للأطراف كافة. حتى الأديان التي عُرفت بالتسامح نظرت إلى هذا الخيار بحدة؛ فقد جاء في الإنجيل: "من ليس معي فهو علي"، كما جاء في القرآن: "ومن يشاقق الله ورسوله ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا". وليس غريبًا تبني الإدارة الأمركية هذه الفلسفة علانية، بعد أحداث 11 من أيلول، حين صرّح الرئيس الأمركي: من ليس معنا فهو ضدنا.

فالحياد بالرغم من أنه قرارقد يتخذه الإنسان بمفرده، إلا أنه لا يعتبر حيادًا إلا بعد موافقة أصحاب النزاع عليه لأنه قد يخدم مصالحهم (مثال الحياد السويسري الذي وافق عليه العالم كونه خدم حاجة دولية)، ولذلك فإن هذا الخيار يحتاج لجهد متواصل ومكلف ومرهق أن كان من حيث إنتاجه أو صيانته، كما يتطلب حركة دؤوبة من الاتصالات لتوضيح المواقف ولإدارة العلاقات، وهات أن ينجح ذلك كله في تجنب عداوة أطراف النزاع. وفوق ذلك فإن الموقف الحيادي قد يبقى مفتقرًا إلى قوة ذاتية كبيرة تفرض على الأطراف المتنازعة الوقوف عند حدٍّ في التصعيد من الضغوط الاستقطابية التي تمارسها. وقد احتاجت الأطراف الحيادية عبر التاريخ إلى بناء تحالفات تؤمن لها قوة ردع لضغوطات الأقطاب المتصارعة التي قد تصل إلى إعلان حرب ومباشرتها على من يحاول الحياد.

على ضوء ما تقدم فإن لبنان، وفي ظل الأزمات المتلاحقة التي تطارد المنطقة وتزداد حدة، لن يمكنه أن يكون حياديًّا، إلا بموافقة جميع اطراف النزاع في الخارج، وهذا مستبعد كون لبنان الضعيف اداة فاعلة في صراعات محيطه، ولأنه بمثل هذا القرار سوف يعادي الجميع، وبالتالي سوف يخسر الدعم والحماية الذين يحتاجهما لمواجهة عواصف المرحلة وتحدياتها، والمفارقة أن الذين يمكن أن يحموه هم أنفسهم يتجاذبونه، كما أن مكوّنات المجتمع اللبناني السياسي لن يمكنهم الإخلال بسلسلة التزاماتهم مع أطراف النزاع الخارجي الذين أسلفوهم الدعم الكبير بشتى الطرق ليكون لهم ردفًا وسندًا عند الحاجة إليهم، وصعب على لبنان كدولة أن يستطيع الوصول إلى موقف داخلي موحد لأن تحالفات المجموعات اللبنانية مختلفة ومتأصلة ومتناقضة، والانحياز إلى طرف دون طرف سوف تكون له مضاعفات سلبية على الصعيد الداخلي، ترسيخًا للشرخ، وتعميقًا لحال انعدام الثقة والاطمئنان، ما يلوح بأزمات قد تظهر مواجهات وحروبًا.

غاية ما في الأمر أن الحديث عن الحياد، سلبيًّا كان أم إيجابيًّا، في جوهره حديث عن شكل معقد وصعب من أشكال العلاقة مع المحيط، وهي، أي العلاقة، متراوحة بين العداء والتحالف، مع ما تشمله هذه الصور من مراتب متدرجة. وكترتيب تقني، فقد أمنت الدساتير في البلدان الديمقراطية مكانكية لصياغة العلاقات مع المحيط، فبنت سياساتها الخارجية على المسلمات الوطنية الجامعة (المفقودة في لبنان)، واشترطت دعم الغالبية في الخيارات الكبرى، وكفلت للأفراد والمجموعات حق التعبير وحرية الآراء السياسية، على أن تكون هذه الحرية ضمن القوانين، وغير ملزمة لعموم المجتمع.

أن سيناريو لا شرق ولا غرب قد جرب مرارًا من دون جدوى وأثبت أنه ليس حلاًّ طبيعيًّا وهو أصلاً معاكس لمنطق الحياة والبقاء والاستمرار الذي يتطلب التفاعل وليس الانعزال. إن الحياد في الحياة حل تقني، مصطنع، صعب، معقد، مرهق، قصير المدى، مؤقت، لا ينتج استراتيجية متقدمة ولا يمكن اعتماده ولا الاعتماد عليه خاصة من قبل الضعفاء وفي بيئة متوترة ومتحركة. انه مقاربة تكتيكية وربما هروب من تحدي مواجهة الواقع والارتقاء إلى مستوى معالجته بكل ما يتطلب ذلك من تطوير في القناعات والقيم والقدرات والتواصل والتفاهم والتعاون والتسامح والتكامل مع الآخر. بل إنه إقرار بنضوب الخيارات الأخرى والقدرة على الخيال والإبداع. والمقلق أن يكون السعي للحياد تغليفاً أنيقاًَََ لقناعة خطيرة تخدع الذات فتحمّل الآخرين في الخارج مسولية تحديات الداخل وتتجنب مراجعة النفس بقصد تطويرها وتنقيتها من عيوبها الباطنة. إن الخيارالجوهري (للأفراد والمجتمعات والأوطان) يكون في لعب دور ريادي كامل ضمن المحيط بعد تمتين المناعة الفردية والوطنية وتعزيز ولاءات مكونات المجتمع تجاه بعضهم البعض وتجاه الكيان وهذا بالطبع يحتاج الى استبدال القيم الضارة بقيم جديدة مفيدة مما يتطلب حتما "عمل قيادي" فذ ندر في بلد كثرت فيه "القيادات".

Michael Kouly


نيسان 2008

No comments: